الخطاب الإسلامي المعاصر - الحلقة الثانية
المحرر
الخط التقليدي:
ثمة حقيقة حيوية في الإسلام، وهي أنه رسالة الله إلى الإنسان، والتي أراد للرسول أن يجعل منها نوراً يخرج بها هذا الإنسان من كهوف الظلمات إلى ساحة الشمس المشرقة الواسعة، وهدى ينقذه من الضياع، وذكرى ليتذكر حقائق الحياة والغيب والإنسان والدنيا والآخرة، ونافذة على العقل والفكر من أجل وعي الذات والله والحياة. ولذلك، فإنه يتحرك من أجل تحويل الإنسان بالفكر، ليكون طاقة حية منتجة ومبدعة، الأمر الذي يفرض عليه أن يعرف كيف يجتذبه إليه، ليرتبط به على قاعدة القناعة التي ترتكز على الفكر والإحساس، وينطلق منه نحو الآفاق الرحبة التي تطل على الله وعلى الحياة والإنسان من خلاله، وهذا هو الذي يجعل من الخطاب الإسلامي عنصر حركة وتغيير لا عنصر جمود وسكون، وربما نجد أن مشاكل الخطاب الإسلامي المعاصر، تكمن في أن هناك اتجاهين في تجربته الفعلية يحكمان الطابع العام للحركة الإسلامية المعاصرة:
الاتجاه الأول:
الخطّ التقليدي الذي ينطلق من مفردات الاجتهادات التاريخية وأساليبها، من دون دراسة المتغيرات الكبيرة التي تحكم الواقع في تطور قضاياه وحاجاته ووسائله وعلاقاته، سواء من ناحية طريقة الحكم وعنوانه وإدارته وتنظيمه، أو من ناحية الأوضاع السياسية التي تحيط به، أو من جانب التحديات الفكرية التي تترك تأثيراتها على المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أو من حيث واقع الاستعمار العالمي المتحالف أبداً مع الكفر العالمي.
إننا نلاحظ أن اللغة التي يتحدث بها هذا الاتجاه على صعيد المضمون والأسلوب، لا تتناسب مع مفردات اللغة المعاصرة، ونقصد باللغة -هنا- الذهنية التي تتحرك بها وسائل التعبير ومفردات التفكير، لأن الذهنية المتنوعة تمثل حاجزاً عن التفاهم تماماً كما هي اللغة في طبيعتها، ولهذا انطلقت الرسالات في خط الأنبياء، لتدفعهم إلى أن يخاطبوا الناس بقدر عقولهم، كما جاء في الحديث المأثور عن النبي محمد –صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم).
وقد نلاحظ في طريقة هذا الاتجاه، أن بعض دعاته يخلطون بين فقه الدولة والفقه الفردي، فيحاولون تغليب الفقه الخاص الذي يتحرك من خلال جزئيات القضايا، على الفقه العام الذي يضع الأمة والمجتمع في حساباته، فيخيل إليك أن على الدولة أن تتجمد في دائرة الحالات الفردية، لأن هؤلاء لم يعيشوا في ثقافتهم تجربة الدولة، بل عاشوا تجربة الإنسان خارج نطاقها، فكانت اجتهاداتهم خاضعةً للظروف الجزئية، كما أن ملاحظاتهم محكومة للتجارب الخاصة، وهذا هو الذي أربك المسيرة الإسلامية التي اصطدمت في بعض نماذج قياداتها بهذا اللون من التفكير، ما جمد حركتها، وأبعدها عن مواقع التحديات.
وربما عاش بعض هؤلاء الاستغراق في الجانب الغيـبي المطلق، بحيث تحولت حركة الحياة لديهم إلى حالة غيب، وذلك من خلال التأكيد أن الإيمان بالغيب يمثل قاعدة مهمة من قواعد الإيمان الإسلامي. ولذلك كانت الأجواء الغيبية هي الأجواء الغالبة لديهم في تفسير التاريخ والواقع، وفي تحريك الخطوات نحو المستقبل. ولكننا نلاحظ، في هذا المجال، أن الله –سبحانه وتعالى- قد سن للحياة سنناً تحكم حركتها، وخطط للإنسان، في حياته الفردية والمجتمعية، قوانين عامة في طبيعة علاقته بالوجود من حوله، بحيث أراد للحياة والإنسان، أن يتحركا في دائرة السنن الكونية المحدودة، من دون إغفال دور القدرة الإلهية في أن تتدخل في بعض الحالات، لتجمد قانوناً كونياً أو مجتمعياً لمصلحة قضية حيوية تتصل بالمسار الكوني والإنساني، في دائرة الإعجاز أو نحوه.
ولذلك، فلن يكون التفسير الطبيعي للأحداث والتطورات والأوضاع العامة، خروجاً عن الإيمان بالغيب، واستغراقاً في الاتجاه المادي، لأن حيثيات الطبيعة في دائرة السنن الكونية، والقوانين الطبيعية، هي من غيب الله الذي لا نعرف عمق أسراره، فإذا كانت السببية المادية هي قانون الحركة في الحياة والإنسان، فإن ذلك لا يلغي جانب الغيب فيها، باعتبار أن سر السببية في عمق الوجود مما لا نعرف حقيقته، ليبقى غيباً في علم الله.
إن مثل هؤلاء يغفلون عن حقيقة إيمانية حاسمة، وهي أن الله أطلق إرادته في حركة الكون والإنسان، في ما يملك الإنسان رؤيته ووعيه وحركته، وهو الجانب المادي من الوجود، كما أطلقها في ما لا يملك الإنسان سره وشهوده وتحركه بإرادته، فهما معاً مرتبطان بالله، فلا يكون الانفتاح على أحدهما دون الآخر، وذلك انطلاقاً من حقيقة الإيمان التي تفرض على المؤمن الأخذ بهما معاً، بحيث تكون للحياة ماديتها الوجودية، وروحيتها الغيبية. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الاستغراق الغيـبي في الشخصيات القدسية، التي يتحول أصحابها إلى مخلوقات غيبية، لا علاقة لهم بالوجود الحسي المادي إلا من حيث الشكل، بالدرجة التي قد تتحول القضية معها إلى ما يشبه التصور الغيـبي لكل ما يحيط بهم، قد يساهم في إبعاد الناس عن الانفتاح على حياتهم من الموقع الإنساني الطبيعي، لأن صورتهم ليست صورةً إنسانيةً في ملامحها وتطلعاتها وحركيتها.
وربما كان السر في هذا الاتجاه، هو فقدان المنهج التوثيقي للتراث الإسلامي، في (الحديث) الذي عاش الكثير من الإرباك في السند والمتن، ما جعل البحث العلمي ضرورياً في توثيق الفكرة في مصدرها ومضمونها، لنستطيع أن نحصل على التكامل الفكري بين خط القرآن وخط السنة، كما هو العمق في الواقع الإسلامي.
وقد تأثرت النظرة الاجتماعية والسياسية بالكثير من هذه الأجواء، بحيث ابتعد الكثيرون من هؤلاء الذين يملكون مواقع إسلامية متقدمة، عن وعي الذهنية المعاصرة، فلم يستطيعوا أن ينفذوا إلى عمق الإنسان المعاصر، الأمر الذي أدى إلى حدوث المزيد من الفواصل بينهم وبين الواقع.
وهذا هو الذي لا يزال الحديث مستمراً عنه، لجهة الهوة القائمة بين الحوزة والجامعة، أو بين الوسط الديني والوسط العصري -إذا صح التعبير- ما يعمل الداعون من العاملين والقياديين على معالجته بالطرق الواقعية، التي تحاول تقريب المفاهيم المختلفة، والأساليب المتنوعة لدى كل منهما.
وقد نلاحظ في هذا الخط –الخط التقليدي- أن الذين ينطلقون فيه، قد يملكون عناوين سياسية كبيرة، تنفتح في شعاراتها على أجواء في مفرداته وحاجاته، وعلى اللغة المعاصرة في طريقة التحرك، وقد يتحركون في الخط الجهادي بالمستوى الذي يتقدمون فيه كل التيارات السياسية الموجودة في الساحة، ما يوحي بأنهم قد يملكون الموقع القيادي في المسألة السياسية.
ولكننا قد نجد إلى جانب ذلك ضياعاً في المسألة الفكرية على مستوى تحديد الخط والمنهج والمفردات بشكل واضح، على مستوى المشروع الإسلامي الثقافي، لفقدان الوحدة الفكرية في هذا المجال، واستغراق الحركة في الجو السياسي والجهادي، ما يفرض على قادتها أن يواجهوا تحديات المستقبل، بالتخطيط الدقيق للخطاب الثقافي الذي يمثل قاعدة الخطاب السياسي، وينفتح بشمولية وامتداد على المشروع الحضاري الإسلامي، الذي يكفل للمسلم المعاصر الحصول على التصور الواضح للخط الإسلامي الحركي في مواجهة الخطوط الأخرى.
إن مشكلة الخط التقليدي، أنه يعاني حالةً من الضياع والتمزق، لأنه يفكر بطريقة مغايرة للطريقة التي يفكر فيها الإنسان المعاصر. ولذلك فإن التجديد الذي أثاره بعض هؤلاء، كان تجديداً في الشكل لا في الحركة الثقافية، ما جعل دخول الحركة الإسلامية التي تتبناه في الواقع المعاصر، مشكلةً تبحث عن حل، لأن خطابها لا يتناسب –غالباً- مع تكوين ذهنية الإنسان العامة.